الشيخ علي كورتشا 1867 - 1956
كرمز للانسجام بين الإسلام والقومية في البلقان
~ This article is published in Arabic in 2007, in “Al-Ghad” newspaper, in Jordan,
by Dr. Muhammad al-Arnaout. ~
محمد م. الأرناؤوط*
مرت قبل شهور الذكرى الخمسون لوفاة الشيخ علي كورتشا الذي يعتبر من أهم علماء المسلمين في ألبانيا خلال النصف الأول للقرن العشرين، ومن الرموز المهمة التي تمثل الإسلام الألباني الحديث في فهمه للمتغيرات من حوله، ومن الشخصيات المخضرمة التي عانت من الأنظمة المختلفة التي عرفتها ألبانيا من الحكم العثماني وحتى الحكم الشيوعي. ولذلك فقد أحسن المستشرق الالباني الشاب ارمال بيغا Ermal Bega في إعادة نشر كتابه المعروف " أحلام ألبانيا السبعة " الذي كان قد صدر في طبعته الأولى بتيرانا في 1924 وفي طبعته الثاني في 1944.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحافظ علي Hafiz Ali ، كما اشتهر لحفظه القرآن الكريم، كان من كبار مثقفي عصره في ألبانيا نظراً لمعرفته الممتازة باللغات العربية والتركية والفارسية وآدابها بالإضافة إلى تعمقه في مصادر الإسلام ومتابعته لمستجدات العصر في العالم الإسلامي، مما جعل نتاجه غزيراً ومتنوعاً في آن. وقد برز الشيخ علي منذ وقت مبكر في الحركة القومية الألبانية، التي كانت تطالب الألبان بحقوقهم القومية ضمن الدولة العثمانية وعلى رأسها الحقّ في تعلم اللغة واختيار الأبجدية المناسبة لها وطبع الكتب في اللغة الألبانية. ولأجل ذلك فقد دخل في صدام مع السلطات العثمانية فسجن ونفي عدة مرات، وفي هذا الإطار يسجل للشيخ علي إقدامه على ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الألبانية حتى يقام لكل ألباني أن يتفهم القرآن الكريم في لغته القومية بعد أن كان الكثير من الألبان يحفظون ويدرون سور القرآن الكريم(في صلواتهم) دون أن يفهموا معنى مايقولوه.
الكتاب الصادر حديثاً(أحلام ألبانيا المسبقة) كان قد ألفّه الشيخ علي عشية الانتخابات البرلمانية في ألبانيا في تشرين الثاني 1923، التي شهدت منافسة قوية بين التيارين المحافظ والإصلاحي، اللذان سعى كل منهما إلى استقطاب الشيخ علي. ولكن الشيخ علي نأى بنفسه على المشاركة في هذه الانتخابات وأراد أن يشارك فيها بشكلٍ آخر: تأليف هذا الكتاب الشعري الذي ضمنه سبع قصائد تصور سبعة أحلام مرعبة عن مستقبل ألبانيا(ومن ضمنها وصول الحزب الشيوعي إلى السلطة) وتقديمه لأعضاء البرلمان الجديد حتى يتحملوا مسؤوليتهم في بناء ألبانيا الجديدة التي استقلت عن الدولة العثمانية.
وقد حذّر الشيخ علي أعضاء البرلمان في مقدمة الكتاب من أن " الطريق الذي يسلكوه لا يقود إلى الكعبة بل إلى الصحراء "، وحملّهم مسؤولية ما هو آت على ألبانيا، " الآن مصير ألبانيا بين أيديكم... إذا تؤسسون بنكاً قومياً برؤوس أموال ألبانيا وتنشؤون الشبيبة بمشاعر قومية ودينية فستذكرون بكل تقدير، وبغير ذلك إذا تحققت هذه الأحلام المرعبة خلال 15 – 20 سنة فستندمون على ذلك حين لا ينفع الندم " .
ويبدو في هذه السطور من المقدمة ما يميز الشيخ علي كورتشا: الحرص على الجميع بين الإسلام والقومية، وبالتحديد على أ، يكون الإسلام عاملاً مكوناً ومنسجماً مع الأديان الأخرى في القومية الألبانية. فمن المعروف أن القومية الألبانية التي برزت متأخرة عن مثيلاتها البلقانية كان لها ما يميزها عن غيرها إذ أنها كانت تعبر عن موقف نخبة بغالبية مسلمة إزاء الدولة العثمانية التي تحكم باسم الإسلام. ولأجل ذلك جاء الكتاب في قسمه الثاني الذي حمل عنوان " مذكرات مختصرة عن معاناتي " ليوضح مواقف الشيخ علي خلال الحكم العثماني التي أوقف وسجن ونفي لأجلها عدة مرات.
ويبدو وهنا بوضوح أن مواقف الشيخ علي التي كانت تزعج السلطة العثمانية كانت تدور حول محورين أساسيين قامت عليهما الحركة القومية الألبانية: اللغة والأبجدية.
فالقومية الألبانية تتميز عن القوميات البلقانية المجاورة في أنها لم تقم على أساس الدين في مواجهة السلطة العثمانية بل على أساس اللغة باعتبارها الرابطة التي تجمع بين الألبان من مسلمين ومسيحيين. ولذلك فإن اللغة كانت وبقيت هي المحور الأساس للرابطة القومية الألبانية. ومن هنا فقد دعى الشيخ علي كغيره من رموز الحركة القومية الألبانية إلى الاعتراف للألبان بحقهم في تعلم لغتهم وطبع الكتب والصحف فيها لنشر الوعي بواسطتها في صفوف الألبان. ولأجل ذلك فقد اعتقل الشيخ علي لأول مرة حين وصوله محطة القطار إ في الأستنبول في أيار 1894 ونفي إلى سينوب لأن السلطات وجدت في حقيبته" كتباً وصحفاً ألبانية مضرة " ولكن الشيخ علي يوضح في مذكراته أنه كان معه الملحمة الشعرية المعروفة لنعيم فراشري " كربلاء " والأخرى " اسكندر بك " وبعض الصحف التي اعتبرت " مضرة " لأنها منشورة في الألبانية وفي الأبجدية اللاتينية.
وبسبب هذا الموقف المتعنت للسلطة العثمانية فقد شارك الشيخ علي وغيره من رموز الحركة القومية الألبانية في تأييد الانقلاب الدستوري في 1908، بل أن" بطل الدستور " نيازي بك كان أحد تلاميذه. ولكن الشيخ علي وغيره من رموز الحركة القومية الألبانية سرعان ما اصطدموا مع السلطة الجديدة(الاتحاد والترقي) حول موضوع الأبجدية هذه المرة.
فقد شارك الألبان بقوة في الانقلاب الدستوري، سواء من خلال جمعية الاتحاد والترقي أو من خلال التمرد المسلح في ولاياتهم والتهديد بالسير نحو استنبول، مما كان له أثره الكبير في أذعان السلطان عبد الحميد وإعلان الدستور. وقد فهم الألبان من الانقلاب الدستوري حقهم في تشكيل جمعيات ومدارس وأحزاب تضمن لهم ممارسة حقوقهم القومية ضمن الدولة العثمانية. وفي هذا الإطار فقد تداعت النخبة الألبانية في ايلول 1908 لعقد مؤتمر في مدينة مناستر(بيتولا الآن في جمهورية مكدونيا) للاتفاق حول أبجدية واحدة للغة الألبانية نظراً لأن الألبانية كانت تكتب بعدة أبجديات(العربية واللاتينية والكيريلية) وقد انتهى مؤتمر مناستير إلى تبني الأبجدية اللاتينية التي تستخدم الآن في اللغة الألبانية. وكانت سلطة الاتحاد والترقي تدعم الاتجاه الذي يطالب باعتماد الأبجدية العربية للغة الألبانية، وذلك خشية أن يؤدي تبني الأبجدية اللاتينية إلى استقلال كامل للألبان عن الدولة العثمانية.
ولا شك أن موقف الشيخ علي كورتشا في هذا المؤتمر كان من الأهمية بمكان، وهو الشيخ المعمم الذي يحظى بالأحترام لعلمه الواسع وثقافته الشرقية، حيث كان يمكن أن يرجح أي طرف داخل المؤتمر. وقد رأى الشيخ علي منذ وقت مبكر أن الأبجدية اللاتينية تناسب اللغة الألبانية أكثر بسبب نظامها الصوتي، ولذلك فقد أطلقت عليه صحف استنبول " الشيخ علي اللاتيني ".
ولكن هذا الموقف للشيخ علي لم يكن يعبر عن أي تحفظ إزاء علاقة الألبان بالشرق، بل على العكس من ذلك. فقد كان الشيخ علي من دعاة الحافظ على اللغة العربية بين الألبان حتى أنه كان يعتبر أن التخلي عن تعلم اللغة العربية يعني التخلي عن الإسلام. ومن هنا فقد كان يدعو إلى إصلاح تعليم اللغة العربية حتى يمكن للألبان أن يتعلموا بسرعة اللغة العربية عوضاً عن أن يقضوا 6 – 7 سنوات في تعلمها حسب المناهج القديمة. ولذلك فقد اهتم الشيخ علي بنفسه ووضع كتباً لتعليم اللغة العربية حسب المناهج الحديثة يسمح بتعلم العربية خلال سنتين فقط، وهو ما كان يعتبر إنجازاً كبيراً بالنسبة إلى ذلك الوقت.
وبالعودة إلى مذكرات الشيخ علي في القسم الثاني من الكتاب يبدو بوضوح الدور المحوري الذي كان له في مؤتمر مناستير. فقد كان الهدف المعلن من هذا المؤتمر بطابع لغوي ولكنه سرعان ما تحول مع الشيخ علي إلى طابع قومي صريح بعد ان طرح سلسلة من المطالب التي تعني حقّ الألبان بحكم ذاتي ضمن الدولة العثمانية: الاعتراف باللغة الألبانية لغة رسمية في جميع المدارس في المناطق الألبانية، إصلاح التعليم في المدارس، إطلاق سراح السجناء الألبان، عدم إرسال الجنود الألبان للقتال خارج مناطقهم(في اليمن وغيرها) لأن غالبيتهم لا تعود إلى وطنهم الخ....
وأخيراً تجدر الإشارة إلى أن الشيخ علي كان من الشخصيات المعروفة في العالم الإسلامي خلال النصف الأول للقرن العشرين، حيث أنه كان يكتب وينشر في العربية والفارسية وله مراسلات مع شيخ الأزهر مصطفى المراغي. ولكن وصول الحزب الشيوعي إلى السلطة في نهاية 1944 غيّبه تماماً، حيث اعتقل ونفي وبقي في عزلة كاملة عن ألبانيا ذاتها إلى أن توفي في 1956.
*مدير مركز دراسات العالم الاسلامي في جامعة آل البيت
No comments:
Post a Comment